كتب : مهند الصالح
كثيرًا ما نتساءل بمرارة: من أين يأتي الخراب؟ أيّ ريح سمومٍ تنفث في المجتمعات فتبدّل الموازين، وتقلب الطيب خبيثًا، والحق باطلاً، وترفع من لا قدر له، وتسفل من يستحق العُلا؟
الشاعر في الأبيات التي بين أيدينا يرسم مشهدًا سوداويًا، لكنه ليس من وحي الخيال، بل من صلب الواقع. يقول:
قد يعتلي ظهر الجياد ذبابُ
ويقود أسرابَ الصقورِ غرابُ فكيف نرضى بأن يُقدّم التافهون لقيادة من هم أعلم وأكفأ؟ كيف نُسلّم دفة الأمور لمن لا دراية له، ولا حكمة، ولا خُلق؟ الخراب لا يأتي من العدم، بل من لحظة صمتٍ عن الباطل، ومن تكرار التبرير للخطأ، ومن تعمّد إقصاء الكفاءات وتقديم الجهّال.
ويسود رجافٌ بمحفل قومه
وعليه من حُلل النفاق ثيابُ إن المنافق لا يصنع مجتمعًا، بل يهدمه من داخله، تمامًا كما يفعل السوس في جذوع الشجر. حين يتقدّم الانتهازي ويتراجع الصادق، فإن أولى ملامح الخراب تبدأ بالظهور.
وترى الأسافل قد تعالى مجدهم
والحرّ فردٌ ما له أصحابُ الخراب يبدأ عندما تُهمل القيم، وتُهان الكرامة، وتُكرّم التفاهة. حين يُصبح الشريف غريبًا في وطنه، وتُقصى الأصوات الحرة، وتُصادر الكلمة الجريئة، فإن المجتمع يبدأ رحلته نحو الانهيار.
لكن ما يدمي الفؤاد مرارةً
أسودًا وتنبح فوقهن كلابُ هذه الصورة المؤلمة تختزل الكثير. حين يُهان الأحرار، وتُحاصر الكرامة، وتُطارد الحقيقة بأنياب الكذب والتشويه، فإن الخراب ليس قريبًا فحسب، بل واقع نعيشه.
تصنعون من الحمقى قادة
ثم تتساءلون: من أين أتى الخراب؟
الخراب، بكل وضوح، يأتي من اختيار القادة الخطأ، من صناعة الرموز الزائفة، من التطبيل للباطل، من خذلان النبلاء، ومن السكوت الجماعي عن الانحراف. لا يولد الدمار فجأة، بل هو نتيجة تراكمات من التراخي، والمحاباة، والتنازل عن المبادئ.
الخراب ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة. ولكي نعيد البناء، علينا أولًا أن نواجه الحقيقة بجرأة، ونسمي الأشياء بأسمائها، وننهض من ركام الصمت والخوف والمواربة. فالنهضة لا تأتي إلا على أكتاف الأحرار، ولا يحرس الوطنَ إلا من يملكون في قلوبهم شرفًا، وفي عقولهم وعيًا، وفي أرواحهم إيمانًا بأن الكرامة لا تُباع، وأن الحق لا يُوارى.
من أين يأتي الخراب؟
